; ; ; ; ; ; ; ; إنَّ
الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ
أنفسِنا؛ وسيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ
له، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه
ورسولُه صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ
الدين، ; ; ;
أمَّا بعد:
فيا أيُّها النَّاسَ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ
التقوى، عباد الله، إن الإيمان إذا تمكن في قلب العبد رضي
بالله ربا ومدبرا، ورضيا بالإسلام شريعة وعملا، ورضي بمحمد صلى الله عليه وسلم
نبيا رسولا أسوة وقدوة في كل الأحوال، هذا الإيمان إذا تمكن في قلب العبد دعاه
للاستجابة لأوامر الله والبعد عن نواهي الله: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ
لِمَا يُحْيِيكُمْ) الآية.
أيُّها المسلم، إن المؤمن حقاً
يعلم أن الله لم يخلق الخلق لعبا، ولم يتركهم سدا، ولم يشرع الشرائع عبثا؛ بل
لكمال حكمه وكمال حكمته، فاض العبادات ونوعها، الأصل أننا خلقنا لعبادة الله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)،
فمن رحمته جل وعلا وفضله أن شرع لنا عبادات نزداد بها قربة إلى ربنا، وتقوي صلتنا
بخالقنا ورازقنا، وتدعونا إلى شكر نعمته وحسن عبادته، وأن نكون جازمين حقا أن الله
حكيم عليم فيما شرع وفيما خلق: (لا يُسْأَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، والعبادات إذا أطلعنا على أسرارها كان خيرا
وإن لم نطلع فالأصل التسليم والانقياد: (وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ
لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ).
أيُّها المسلمون، إن الله جل وعلا
افترض على أهل الإسلام صوم رمضان وجعله الركن الخامس من أركان الإسلام، افترضه
عليهم بنص القرآن والسنة، ورغبهم في صيامه ورتب على الصيام الثواب العظيم والعطاء
الجزيل.
أسمعوا
الله يخاطبكم يا معشر المؤمنين، أيها المستجيبون لله ورسوله يخاطبكم ربكم بأسماء
أوصافكم وأكملها وأعلاها، فسمعوا خطاب الله لكم تشريفا لكم وإكراما لكم ورفعا من
شأنكم، وهو الغني عنكم وعن طاعاتكم، طاعاتكم لا تزيد في ملكه ومعاصيكم لا تنقص من
ملكه، إنما الخير لكم بالامتثال والشر عليكم بعدم الامتثال، أما ربكم جل وعلا فهو
الغني الحميد؛ لكن من رحمته نوع العبادات وجعلها أنواعا حتى يظهر استسلام العبد
المؤمن والانقياد، فإن المؤمن حق الإيمان يقبل كل الطاعات ويرضى بها؛ وليس كمن
يقبل طاعة ولا يرضى بغيرها، فالمسلم يصلي ويزكي ويصوم ويحج ويقر ويصل ويلتزم
بالأخلاق كلها طاعة لله، ليس كمن يصوم ولا يصلي، أو من يصلي ولا يزكي، أو من يزكي
ولا يحج، لا، المؤمن منقاد لكمال طاعاته يأمر الله بها: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فرض عليكم صيام رمضان وتعبدتم بالصيام كما تعبد
به من قبلكم، فلستم بدعا من الخلق؛ لكنها عبادة قديمة تعبد بها من قبلكم إلا أنه
لا علم عندنا بالشهر أو بالأيام أو بطريقة الصيام إنما نحن نعلم من الله أنه تعبد
بالصيام من قبلنا وأننا تعبدنا به كذلك، ولهذه الأمة مزيد فضل وإحسان على من سواها
من الأمم، ثم قال جل وعلا: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
يقف المؤمن قليلا يتدبر هذا الجزء من الآية (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ)، لعلكم بالصيام تنالون التقوى، يكتب الكاتبون ويتحدث المحدثون،
ويبحث الباحثون عن أسرار الصيام وآثاره ومنافعه ومهما كتبوا ومهما قالوا فالمرجع
إلى هذه الآية: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، لأن
في التقوى أمثال أوامر الله، وبالتقوى اجتناب نواهي الله، وبالتقوى كمال
الاستجابة، وبالتقوى كمال الانقياد والذل والخضوع: (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ)، ثم قال: (أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ)
لم يقل العام كله، ولا نصفه، ولا ثلثه ولا ربعه وإنما شهر واحد من اثني عشر شهرا،
رحمة وإحسانا، فإن الشرع جاء بما فيه الرفق بالناس في أحوالهم كلها: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ
الْعُسْرَ)، ثم إنه جل وعلا جاز للمسافر أن يفطر وللمريض أن يفطر في رمضان
كما سيأتي إن شاء الله، وكان في أول الإسلام مخيرين بأن يصوموا وبين أن يطعموا عن
كل يوم مسكينا فقال: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ
تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)، ثم رحمنا ربنا وتفضل علينا وأحسن إلينا فافترض
علينا الصيام فرضا لازما دون تخير: (شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ).
أيُّها المسلم، إن لهذا الشهر
فضائل عظيمة وحكم جليلة، فمن أعظمها:
تحقيق
تقوى الله بامتثال أمره بالصيام، والكف عن ملذات النفس طاعة لله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ
الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
ومنها:
أن العبد يقين يقينا جازما بإطلاع الله عليه، وعلم الله بسره وعلانيته: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا
فِي السَّمَاءِ)، ولهذا عظم أمر الصيام لقوة الإخلاص فيه، فبإمكان الإنسان
في خلواته أن يأكل ويشرب ويأتي المرأة؛ لكن ما في قلبه من تعظيم ربه، وعلمه بإطلاع
الله عليه، وعلم الله بسره وعلانيته يدعوه للاستجابة والانقياد.
ومن
ذلك: أنه يعرفه قدر نِعم الله عليه التي أنعم به عليه، فإن المداوم على النعمة لا
يعرف قدرها؛ لكن إذا فقدها وأحس بالجوع والظمأ لاسيما في طول النهار علم حقا عظيم
النعم وعظيم الفضل وأنه ترك هذه النعم مع تواجده عنده؛ لكن الحال لتركها تقوى الله
ومراقبة أمره وأداه إلى رحمة المحتاجين والمعوزين والإحسان إلى الفقراء لاسيما يا
أخواني الأمة المشردة من أوطانها الذين هدمت دوره وأتلفت مزارعهم، وشردوا عن
بلادهم، فهو في عراء وجوع ومزغبة ينبغي الرحمة والإحسان إليهم، ولئن كانت حكومتنا
وفقها الله ممثلة في خادم الحرمين ووزير داخليته قد قاموا بجهد كبير في إرسال
المعونات لهؤلاء المحتاجين فهم بأمس حاجة وأمس رحمة أرحموهم يرحمكم الله، ارحموا
فقرهم، وارحموا إعوازهم، ورحموا شددت الحرب عليهم، وارحموا خرجوهم من بلادهم،
وتشريدهم من أرضهم، فهم بأحق الرحمة والإحسان، وفق الله المسلمين إلى كل خير.
ومن
ذلك أيضا: أن في الصيام كفاً للنفس وحملا لها على الخير قال صلى الله عليه وسلم:
"كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ
فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا".
أيُّها المسلم، ;وفي صيام ناشط لله أن أنزل علينا القرآن، فإن
الله أنزل هذا الكتاب العزيز على قلب محمد صلى الله عليه ; وسلم في شهر رمضان في شهر رمضان: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)،
ولما كان القرآن مصدر عزنا وقوتنا وتنظيم أمور حياتنا، كان إنزاله نعمة من الله
علينا فنقابل هذه النعمة بصيام هذا الشهر شكرا لله على إنزال القرآن وهدايتنا
للإسلام، وتيسر أمورنا، فلله الفضل والمنة، (يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) فالشرع لا عسر
فيه، ولا مشقة فيه، هو بمقدار مكلف يستطيع أن يصوم ولله الحمد رحمة من الله
وإحسانا.
أيُّها المسلمون، في سنة نبيكم
صلى الله عليه وسلم ترغيبا لكم في الصيام، فأخبركم نبيكم صلى الله عليه وسلم أن
صيام رمضان يكفر ما بينه وما بين العام الآتي من صغائر الذنوب "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ
وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ
الْكَبَائِرَ"، وأخبركم نبيكم صلى الله عليه وسلم أن صيامكم في رمضان
مكفر ما مضى من خطاياكم وسيئاتكم: "مَنْ صَامَ
رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"
صامه إيمانا بوجوبه واحتسابا غير مستثقل له ولا مستطيل لأيامه، وإنما يعد أيامه
لعظم الثواب عند رب العالمين، ويقول نبيكم صلى الله وسلم يوما وقد أظلهم رمضان:
"أَظَلَّكُمْ شَهْرُ عظيم، شَهْرُكم هَذَا مَا
مَرَّ بِالْمُؤْمِنِينَ شَهْرٌ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهُ َبمَحْلُوفُ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم، وَلاَ بِالْمُنَافِقِينَ شَهْرٌ شَرٌّ لَهُمْ مِنْهُ َبمَحْلُوفُ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِنَّ اللَّهَ لَيَكْتُبُ أَجْرَهُ
وَنَوَافِلَهُ قَبْلِ أَنْ يُدْخِلَهُ، وَيَكْتُبُ إِصْرَهُ وَشَقَاءَهُ قَبْلِ
أَنْ يُدْخِلَهُ"، وذلك أن المؤمن يعد فيه القوة للعبادة تقويا على
العبادة، ويعد فيه المنافق والفاجر تتبع عورات الناس وغفلاتهم فهو غنم للمؤمن
يغتنمه الفاجر، ويقول صلى الله عليه وسلم عن رمضان: "أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل السكينة ويحط الخطايا، ويستجيب
الدعاء فأروا الله من أنفسكم خيراً فإن الشقي فيه من حرم رحمة الله"،
ويقول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ
وَعَرَفَ حُدَودَهُ وَتَحَفَّظَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَفَّظَ فِيهِ كَفَّرَ
مَا كَانَ قَبْلَهُ"، قال سلمان الفارسي رضي الله عنه فيما يروى عنه
مرفوعا أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم في آخر يوم من شعبان فقال: "قد أظلكم شهر عظيم مبارك فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل
الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى
فيه فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر،
والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائما
غفر الله له، وأعتقه من النار" قالوا: يا رسول الله ليس
كلنا يجد ما يفطر الصائم، فقال: " يعطى الله
هذا الثواب من فطر صائما تمرة أو مذقة لبن أو شربة ماء، ومن خفف عن مملوكه غفر
الله له وأعتقه من النار، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار
فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتان ترضون بهما ربكم شهادة أن لا إله إلا الله،
وتستغفرونه، وخصلتان لا غنى بكم عنهما تسألون الله الجنة، وتستعيذون به من النار،
ومن سقى صائما شربة سقاه الله من حوضه شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، تفتح
أبواب الجنة الثمانية وتغلق أبواب النيران وينادي منادي يا باغي الخير أقبل ويا
باغي الشر أقصر إن الله خصكم بخصائص في هذا الشهر لم تكن لأمة قبلكم"
يقول صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيَتْ أُمَّتِي فِي
رَمَضَانَ خَمْسَ خِصَالٍ لَمْ تُعْطَهَا أُمَّةٌ قَبْلَهُمْ: خُلُوفُ فَمِ
الصَّائِمِ أَطَيْبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَتَسْتَغَْفِرُ لَهُمُ
الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى يُفْطِرُوا، وُيَزَيِّنُ اللَّهُ جَنَّتَهُ كُلَّ يَوْمٍ،
ويَقُولُ يُوشِكُ عِبَادِي الصَّالِحُونَ أَنْ يدعوا عَنْهُمُ الأَذَى والْمَئُونَةَ
وَيَصِيرُوا إِلَيْكِ وَتُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ فَلاَ يَخْلُصُون
فِيهِ إِلَى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ وَيُغْفَرُ لَهُمْ فِي
آخِرِ لَيْلَةٍ". قِيلَ: أَهِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ قَالَ: "لاَ وَلَكِنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا يُوَفَّى أَجْرَهُ إِذَا
قَضَى عَمَلَهُ".
إخواني،
فافرحوا بهذا الشهر واستبشروا به وحمدوا الله على بلوغه وسألوا الله التوفيق
والسداد في القول والعمل، شهر الخيرات والبركات تضاعف فيه الحسنات تقال فيه
العثرات، تجار فيه الدعوات، فادعوا الله في صومكم وألحوا عليه بالمسألة وسألوه من
فضل وكرمه فإنه يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي
عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، اللهم
أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ووفقنا فيه لصالح الأقوال والأعمال،
أقولٌ قولي هذا، واستغفروا الله العظيم الجليل لي ولكم
ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.
;
الخطبة الثانية
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا
مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا
شريكَ له، وأشهد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ
تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ، ; أما بعد:
أيُّها المسلمون، إن صيام رمضان واجب على المسلم البالغ العاقل القادر المقيم الذي خلى
من كل الموانع فيجب أن يصوم رمضان أداء في وقته طاعة لله واستجابة لأمره،
الصغير يأمر به تطوعا يأمر به قبل البلوغ ترغيبا له في ذلك ليعتاد عليه، فاقد
العقل لا يخاطب بالصيام، المسافر له أن يفطر في سفره لاسيما إن كان فطره رفق به
فله أن يفطر في سفره، وله أن يصوم في سفره، ونبينا صلى الله عليه وسلم صام في
السفر وأفطر ورغبهم في الفطر لما قرب من قتال العدو فقال: "إنكم ملقوا العدو غدا والفطر أرفق بكم"، فللمسافر
أن بفطر وإن وجد قوة وصام فحسن سأل حمزة النبي صلى الله عليه وسلم قال يا رسول
الله: إن لي ظهرا أكريه وأجريه، ويمر بي هذا الشهر وأنا شاب أجد القوة على الصيام
وأخاف أن أفطرة أن أكسل عن الصيام فقال: "كل ذلك يا
حمزة"، وقال أنس كان أصحاب رسول الله يسافرون فمن الصائم ومن المفطر
فلم يعب الصائم على المفطر ولم المفطر على الصائم، من أفطر في السفر طلبا للرخصة
فحسن يقول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ".
أيها المسلم، إن الله يقول: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، فالمريض على أقسام:
هناك
مرض لا علاقة له بالصيام صداع أو وجع فهذا يصوم.
وهناك
مرض إذا صام فيه الصائم آخر الصوم البرءة أو تضاعف الألم فهذا يستحب له أن يفطر
ولا يصوم مع المشقة.
وهناك
مرض خطير كالأمراض المستعصية التي لا يرجى غالب الشفاء منها فإن هذا يفطر ويطعم عن
كل يوم مسكين، فالمصاب بالفشل الكلوي أو انخفاض السكر أو الزيادة أو الوباء الكبدي
أو السرطان أو غير ذلك من الأمراض الخطيرة التي يقال الأطباء أنها أمراض مستعصية
فهذا يفطر ويطعم عن كل يوم مسكين رحمة من الله وفضلا وإحسانا.
أيها المسلمون، الشيخ الكبير
والمرأة الكبيرة إذا أعجزهما الكبر عن الصيام جاز لهما أن يفطرا ويقضيان مكانهما
جاز لهم الإفطار وجاز لهما أن يفطرا ويطعما عن كل يوم مسكين لأن الله يقول: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)
كان مخير في أول الأمر بين ; الصيام
والإطعام فنسخ في حق القادرين فيبقى في حق الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة اللذان
يؤديان الصيام دائما أن يفطرا ويطعما عن كل يوم مسكين، أما الهرم الذي فقد الذاكرة
أو الذين فيهم الجلطة الدماغية أو الذين في العانية المركزة ويأتي الشهر وهم في
غيبوبة دائمة فإن هؤلاء لا صيام عليهم ولا إطعام عليهم لأنهم ليسوا أهل تكليف حيث
كانوا فاقدين الذاكرة فلا صوم ولا قضاء.
أيتها المرأة المسلمة، إن الحيض يفسد
الصيام وأنه لا صيام لمن بها حيض فمتى طرقها الحيض ولو قبل غروب الشمس أعتبر اليوم
فاسدا، وإن غربت الشمس وأتتها العشرية فإن الصوم صحيح بغروب الشمس.
أيها المسلم، الحامل والمرضع
إذا شق الصوم عليهما خوفا على أنفسهم أو الولد جاز لهما أن يفطرا ويقضيان مكانهما
أياما آخر، هكذا شريعة الله الصوم لا مشقة فيه فاتقوا الله في أنفسكم، وحافظوا على
صيامكم.
أيُّها المسلمون، شرع لكم نبيكم
قيام رمضان فقال: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا
وَاحْتِسَابًا غُفِرَ الله لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وكان
يأمر بقضاء رمضان ويأمر بقيام رمضان، وكان يرغب في قضاء رمضان وكان يرغب في قيام
رمضان من غير يقول: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ
إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ الله لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"
صلى في أصحابه ثلاث ليالي في رمضان فغصا المسجد بأهله فلم يخرج عليهم وقال: "علمت مَكَانُكُمْ، لَكِنِّ خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ
فلا تستطيعوها"، وفي عهد عمر رضي الله عنه مر بالمسجد فرأى الناس
أوزاعاً هذا يصلي وحده وهذا مع رجل وهذا مع الرجلين فقال: لو جمعتهم على إمام واحد
فجمعهم على أبي بن كعب وتميم الداري فقال: الصحابة نور الله قبر عمر كما نور
مساجدنا بالتراويح، فالتراويح سنة مؤكدة لا ينبغي للمسلم أن يدعها فأحيوها رحمكم
الله وصلوا مع الإمام وقفوا معه حتى ينصرف: "مَنْ
قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ".
فاتقوا
الله في أنفسكم، أيها المسلمون، صيامنا ولله الحمد وفطرنا على شرع الله: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، لاَ
تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمى عَلَيْكُمْ
فَأَكْمِلُوا الشهر ثَلاَثِينَ".
أيها المسلم، أوقاتنا مقيض
بتوقيت أم القرى في صومنا وإفطارنا، وتقويم أم القرى تقويم ثابت، وتقويم موثوق،
وتقويم أشرف عليه لجنة علمية شرعية فلكية إسلامية ووضعوا له نظام منذ تسعين سنة
على عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله وما زال هذا التقويم موثوق به ومطمئن إليه،
فالذين يشككون فيه أو يدعون أننا نمسك قبل الوقت بعشرين دقيقة أو نحو ذلك، كلها
دعوى غير ثابتة يكذبها الواقع فإنه هناك لجنة عليمة خرجت في هذه البلاد من أكثر من
موضع ورأوا حقا أن غروب الشمس وطلوعها وطلوع الفجر الثاني على وفق تقويم أم القرى،
فالمشككون في هذا التقويم والذين يريدون بلبلة هذا الشيء لا علم عندهم ولا فقه
عندهم ولا يجب أن نصغي إليهم؛ بل نكون على ما كنا عليه في هذا الأمر العظيم، أسأل
الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضى.
واعلموا
رحمكم الله أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه
وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين،
فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصَلُّوا رحمكم الله على عبد الله
ورسوله محمد كما أمركم بذلك بربكم قال تعالى: (إِنَّ
اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم
وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين، أبي بكر،
وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم
بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ
الراحمين.
اللَّهمَّ
أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، ونصر عبداك
الموحدين، وجعل اللَّهمّ هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب
العالمين، اللَّهمَّ أمنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا وفقهم لما تحبه
وترضى من الأقوال والأعمال، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبدالله بنَ
عبدِالعزيزِ لكل خير، سدده في أقواله وأعماله، ومنحه الصحة والسلامة والعافية، وشد
عضده بولي عهده الأمين سلمان بن عبدالعزيز، وأعنه على مسئوليته إنك على كل شيء
قدير.
إخواني
أئمة المساجد، اتقوا الله في أنفسكم، وحافظوا في
هذا الشهر المبارك على مساجدكم أعظم من غيره وإن كان مطلوب دائما الحفاظ على
المسجد؛ لكن في هذا الشهر ليكون العناية في المسجد والاهتمام به وصلاة التراويح
وقراءة القرآن واستكماله كله بالشهر هذا من هدي السلف الصالح كانوا يستحبون من
الإمام أن يسمع المأمومين كتاب الله كاملا في رمضان، بعض إخواننا الأئمة يجعلون
القرآن أربع سنوات ثلاث سنوات هذا لا ينبغي بل الذي ينبغي أن نسمعهم كتاب الله في
الشهر كله هذا هدي السلف الصالح الذي مضى عليه من قبلنا.
فيا
أيها الأئمة اتقوا لله في مساجدكم، وحافظوا عليها وعلموا أن إبقاءكم في مسجدكم خير
لكم من أن تعتمرون، فإنها واجبة والعمرة سنة فلا تدعوا الواجب لأجل سنة.
اتقوا
الله أيها المؤذنون، ونظروا في الوقت لا تأذنوا حتى تشعروا بأن الوقت قد دخل فإنكم
مؤتمرون على الأذان كما أن الإمام مؤتمر على أداء الفريضة.
فلنتقي
الله في أنفسنا ولنتعاون على البر والتقوى، أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.
اللَّهمَّ
يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أهل علينا هذا الشهر بالأمن والإيمان
والسلامة والإسلام، اللَّهمَّ وفقنا فيه لما تحبه وترضى، اللَّهمَّ أجعلنا ممن
يصومه ويقومه إيمانا واحتسابا، اللَّهمَّ كما قربته لنا من أيامه فبلغنا صيامه
وأعننا على ذلك إنك على كل شيء قدير، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ).
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ
ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم،
واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما
تصنعون. ; ; ; صوم رمضان ركن من أركان الإسلام - خطبة الجمعة 26-08-1434هـ